• ×
الجمعة 17 شوال 1445

لماذا تحاصر لغتنا العربية في محيطها العربي؟

بواسطة عبدالله العليان 06-24-1444 08:12 صباحاً 157 زيارات
لا تزال قضية التحديات التي تواجه لغتنا العربية، في الكثير من جامعاتنا وكلياتنا ومعاهدنا في العلوم الإنسانية، بل حتى في بعض المؤسسات الإدارية في بعض بلداننا العربية يتم التدريس فيها باللغات الأجنبية قائمة وتشكل خطرًا ماثلًا، وهذه مع الأسف تبعث على القلق فيما يجري للغة الوطنية الحاضنة للفكر والثقافة والعلم، من تجاهل بصورة لافتة وتدعو للاستغراب من محاصرة للغة العربية وهجرها في ديارها الأصلية، وجعل اللغات الوافدة عليها هي المتسيدة للمشهد العلمي والفكري في بيئتها، وهذه لم تنحصر في الكليات العلمية، كالطب والهندسة والعلوم البحتة، التي ربما البعض يراها مسوغة كعلم بأدواته التشريحية، والتقدم العلمي الطبيعي جاء من خلال لغات أجنبية مع مصطلحات وأدوات ارتبطت بها، لكن الإشكال الذي نستغرب له ونراه متجاوزًا للغة القومية، أن اللغات الأجنبية امتدت حتى إلى الكليات الاجتماعية والإنسانية، التي لا مسوغ لفرض اللغات الأجنبية عليها، وهذه يعيدنا إلى قرون مضت عندما قال ابن خلدون ناقدًا لهذا المنحى السلبي تجاه ثقافة الآخر وفكره، الذي عده نتائج للضعف السياسي والعسكري للأمة في مرحلة من المراحل فقال مقولته الشهيرة «إن المغلوب مولع باقتداء الغالب»، وهذا في حد ذاته لا يعطي شيئًا للاستبدال باللغة القومية غيرها من اللغات الوافدة، وليس له مردود إيجابي لهذا الاختيار أو الانكفاء للغة العربية، بل العكس يعتبر معيقا للإبداع من الناحية العلمية أيضا، ولعل مقولة السياسي المغربي أحمد بلا فريج، وهو أحد زعماء الحركة الوطنية المغربية عندما قال: (إن العلم إذا أخذته بلغتك أخذته، وإذا أخذته بلغة غيرك أخذك)، وهو يقصد أن اللغة هي محط الإبداع عند التعبير والتفكير، واللغة الوافدة ستأسرك وتجعلك تابعًا لها وليس العكس، ولا يمكن تحقق الإبداع إلا باللغة الأم، وهذا كتبه بعض علماء النفس والاجتماع في أهمية اللغة الأم، وإذا نظرنا نظرة واسعة في عصرنا الراهن، وكيف تحقق لدول كانت في ذيل القائمة تجاه التقدم العلمي والمدني والحضاري، نجد أن هذه الدول مثل: اليابان، والصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة ـ والهند مؤخرًا ـ نهضوا من خلال لغاتهم الوطنية، ولم يتخلوا عنها عند الأخذ من علومهم الحديثة، وهو الذي سبقهم في التقدم العلمي والتكنولوجي، لكنهم استفادوا منه منهجيًا وبطرقه وأساليبه، ثم تم تفردهم في التقدم العلمي والحضاري، بل استطاعت بعض الدول الآسيوية، أن تتقدم تكنولوجيا حتى على الغرب الذي سبقهم بأكثر من قرن.
وإذا رجعنا إلى القرون التي مضت في مجالنا الفكري والثقافي العربي، نجد أن العرب والمسلمين،عندما بدؤوا في النهوض بعد ظهور الإسلام وانتشاره، استفادوا من الحضارات التي سبقتهم في المناهج والمعارف العلمية كاليونان والفرس، لكنهم تفردوا في تأسيس علوم جديدة وأضافوا إليها، وتم تجاوز ما كان مع الآخرين من علوم ومعارف، والغرب نفسه عندما تعّرف على علوم العرب والمسلمين، في فترة الحملات الصليبية وما بعدها، أخذ من العرب الكثير من العلوم والمعارف، وأسس الصناعات التي كانت لديهم، وأضاف إليها وطورها، وهكذا كل الحضارات تستفيد من بعضها البعض، وتجدد وتبدع في هذه المعارف، وهذه من سنن الحياة الإنسانية عبر التاريخ، لذلك المسألة التي أود مناقشتها، هي قضية الهزيمة الفكرية عند بعض أبناء أمتنا، الذين انبهروا بالغرب على وجه الأخص عندما تقدم ونهض من سباته لعدة قرون، وأصبحوا يقلدونه فيما لا يستحق مثل التقليد والمحاكاة دون الإبداع كما سار عليه هو، ووصل الأمر بالبعض للتقليد في قضايا مظهرية وشكلية، لكن الأمر الذي يعد خطيرًا وجديرًا بالنظر والمراجعة، هو محاولة إقصاء اللغة والهوية الثقافية من محيطها ونسيجها العقلي والثقافي، واستبدالها باللغات الأجنبية، وهذه من المساوئ الكبيرة لثقافة الأمة وفكرها وقيمها، والمتمثل في اللغة العربية، فإذا ذهبت اللغة، وهي الحصن الحصين للذات الخاصة، تتساقط بقية أركان وأسس الوجود بالتلاشي والانحسار، وهذا أيضًا له آثاره السلبية على إبداع أجيالنا من الذوبان في ثقافات الآخرين، عندما يفقدون مقومات اللغة المعبرة عن مكنونات فكرهم وهم في بدايات نشأتهم اليافعة.
أتذكر أنني قبل عدة سنوات، حضرت أحد المؤتمرات في إحدى دول مجلس التعاون، وكان المؤتمر يناقش تحديات التعليم في دول مجلس التعاون ومؤثراته، ومنها مزاحمة اللغات الأجنبية للغة الوطنية، فأحد الباحثين في هذا المؤتمر، وهو مشارك بورقة بحثية، وكان يدرس في إحدى الجامعات الخليجية، والتدريس باللغة الإنجليزية، فقال: كنت أرى نظرات الطلاب والطالبات عندما أشرح الدرس بهذه اللغة الوافدة، وكأنهم يحسون بالألم الداخلي من خلال نظراتهم، وفرض لغة أجنبية في تخصصات إنسانية، كان يمكن أن تكون العربية هي مناط التدريس فيها! ويضيف: كنت أنا أيضا أشعر بالخجل من نفسي، مما أقوم به من شرح للطلاب بهذه اللغة الدخيلة على ثقافتنا وقيمنا، لكنني مجبر على ذلك، إن أردت العمل في هذه الجامعة.
والأمر الذي يُستغرب له أن اللغة العربية قادرة وليست قاصرة، كما أشرنا في أن تقوم بهذا الدور من التأصيل العلمي والمنهجي للطلاب، من دون أن تفرض اللغة الوافدة عليهم، فهي قادرة على استيعاب علوم العصر وتقنياته مثلها مثل كل لغات العالم، واللغة العبرية التي ماتت واختفت من الوجود الفعلي كنشاط للتعبير من خلالها، عدا الصلوات بالمعابد، عادت مرة أخرى في الكيان الإسرائيلي، ويتم تدريسها في الجامعات والكليات كلغة علم وفكر، فما بالنا باللغة العربية التي تعدّ إحدى لغات العالم الحية منذ عشرات القرون، كما استطاعت لغات الدول الآسيوية التي تقدمت وأبدعت بلغاتها الخاصة، وكلنا نعلم أن العرب عندما خرجوا من جزيرتهم العربية، فاتحين لنشر دين الإسلام، استطاعوا إخضاع الشعوب المجاورة لسلطانهم، وكانت متفوقة عليهم ـ كما يقول د. محمد الكتاني: « في حضاراتها وثقافاتها، إلى حد بعيد. وكان العرب لا يحملون إلى هذه الأمم سوى عقيدة الإسلام وشريعته ومبادئه الأخلاقية واللغة العربية التي كانت لغة القرآن التي لا بد من تعلمها وقراءة القرآن بها، وخلال عقود قليلة من السنين دخلت تلك الشعوب في الإسلام طواعية وعن اقتناع، فانتشرت بين فئاتها اللغة العربية. وسرعان ما ظهر من بينهم وهم فرس في معظمهم علماء في الفقه والنحو والبلاغة والتاريخ والفلسفة، وظهر من بينهم شعراء كبار، حتى الذين ظلوا على نصرانيتهم ومجوسيتهم أو يهوديتهم».
واللغة العربية إذن ليست مجرد لغة للتخاطب، فقط بل هي لغة العلم والفكر، ولا يمكن الفصل أو البتر والتجاوز، بالاعتقاد الخاطئ أن اللغات الأجنبية قادرة على النهضة العلمية وحدها، وهذا مجرد توهم من خلال الشعور بتقدم الآخر وكأن اللغة هي السبب، وهذا لا دخل له لا باللغة ولا بالهوية ولا بالرصيد الحضاري، ولا يجوز ولا يقبل الفصل التعسفي بين اللغة والفكر، أو بين اللغة والهوية الوطنية الجامعة، وهذا الأمر من إقصاء اللغة كأنك اقتطعت جزءا من جسم متكامل البناء، مرتبط بعضه ببعض، ومثله إقصاء اللغة ومحيطها الثقافي والفكري، وهذا ما عبر عنه الأكاديمي والباحث في اللغة د.عبد السلام المسدي الذي انتقد مواقف البعض تجاه اللغة العربية، في قوله: «إن أمر اللغة عند العرب عجيب، وأعجب منه أمر العرب مع لغتهم. وبوسعك أن تجزم بأنهم يستثيرون من الاستغراب ما تستثيره أمة من الأمم، وكثيرًا ما يحار المتأمل في فكر خالص كيف يُصار بالخيارات الجوهرية في الحياة الجماعية إلى مثل هذه الأوضاع التي كأنما يتحول فيها الفاعل عدوًا على نفسه». فهذه مؤشرات خطيرة جدا مع هذه النظرة السلبية للغة العربية، إن لم يتم المراجعة الجديرة بحسم قضية اختراق لغات أجنبية، والاستبدال بغيرها، والعمل على ضياع فكر الأمة وهويتها، والأغرب أننا نحن الذين نقوم بذلك طواعية، دون أن يحصل بالفرض والقسر من قوى أخرى، وهذه أزمة ربما أخطر مما فعله الاستعمار عند احتلاله لبعض بلداننا العربية، عندما أسهم في الاختراق الثقافي للكثير من المؤسسات الفكرية، لكنه لم يحقق نجاحا كما أراد، بالقياس ما يقوم به بعضنا في المؤسسات الجامعية في بعض بلادنا العربية من خلال إحلال اللغة الوافدة بديلًا للغة العربية، ولا شك أن الاختراق الثقافي بتأثيره نجح، واستطاع بأساليب كثيرة أن يتسرب كثيرا في ثقافات الشعوب بعد رحيله، من خلال بعض ممن تأثر برؤيته ودعايته، وإقصاء اللغة القومية هي إحدى ثمار اختراقه.
أكثر